هشاشتنا النفسية وواقعنا الملفق


وأنا أتصفح خطتي الشخصية لعام 2020، تذكرت أحد أهدافي وهو كتابة مقال كل أسبوع لصفحتي على الانترنت. وبالطبع لم ألتزم بهذه الخطة الطموحة وكالعادة شعرت بالإحباط والحنق على نفسي لأنني أضفت إخفاقا آخر لقائمة اخفاقاتي في الحياة. وبدلا من تعديل الخطة، قررت أن ألتزم بتحقيق هدفي في كتابة 52 مقال لمدونتي.

ولأحقق هدفي توجب عليّ أولا أن أتخلص من ذلك الإحساس البغيض الذي ملأ قلبي وهذا الصوت المحايد الروبوتي الذي أسمعه داخلي يذكرني بأنني موهبة منقوصة ما لم أعمل على صقل هذه الموهبة وإخراجها للنور وتحمل طعنات النقد من الآخرين. بعدها كان على وضع تصميم جديد ليومي وبناء روتين يومي يمكنني من الالتزام بما وضعته لنفسي من أهداف ومحددات أداء. ووجدت روحي تواقة لبداية جديدة.

قادني تفكيري إلى التفكر مجددا في الروح والقلب وهشاشتنا النفسية. وتذكر تلك المواقف البسيطة التي مرت بي وأشعرتني ببعض الامتعاض والحنق مثلما لم أجد الآيس كريم المفضل عندي في متجر المأكولات الصحية وكان على أن أقاوم رغبتي العارمة لتناول الآيس كريم حتى لا ينتهي بي الأمر بتناول نوع مليء بالسكر على عكس ما قد كنت خططته لذلك اليوم. ثم تذكرت مواقف أعمق عندما أتذكرها حتى بعد مرور عشرات الأعوام أشعر بثقل شديد في أطرافي وحزن عميق في قلبي.

مما زاد احساسي بالهشاشة النفسية ما نمر به ويمر به العالم حولنا في مواجهة جائحة كوفيد-19. في غضون أسابيع تبدلت نشراتنا الإخبارية، وصنفت الوظائف في المجتمع إلى صنفين "ضرورية" و "غير ضرورية"، وأجبرنا على العمل من منازلنا، وأغلقت كل أماكن الترفيه التي اعتدنا ارتيادها، واضطررنا لإعادة ترتيب أولوياتنا.

رغم محاولاتي المستمرة منذ أن كنت في الخامسة عشر من العمر لوضع خطط لحياتي حتى أكون مسيطرة ومتحكمة إلى أبعد درجة ممكنة في مجرى حياتي، إلا أنني أشعر أنني الآن لا أستطيع التخطيط لفترة تطول عن أسبوع أو عشرة أيام، وأننا نخطط لكن توفيق الله هو ما يمكننا من تحقيق هذه الخطط. ويا للغرابة، فبدلا من أشعر بالضآلة وقلة الحيلة لمحدودية قدراتي وهشاشتي النفسية، شعرت بارتياح كبير وسلام داخلي وصفاء نفسي.

هشاشة الإنسان ليست فقط نفسية، بل صحية ومالية وفي كل منحى من مناحي حياتنا. أحيانا تدعونا مثل هذه الأفكار إلى الشعور بالكآبة، لكن في أحيان أخرى بدلا من أن نشعر بقلة الحيلة نشعر بقرب شديد من خالق الأكوان. وبدلا من الشعور بالإحباط نشعر بالراحة بعيدا عن واقعنا الملفق وصورنا المختارة بعناية المنشورة على الإنستجرام مع الهاش-تاج المناسب.

وجدتني أقول لنفسي: "الحقيقة الخشنة أحسن من الأكذوبة الناعمة". لأننا عندما نرى الحقيقة يمكننا تغييرها أو تحسينها. بينما إن غرقنا لآذاننا في أكذوبة وواقع ملفق لن نتمكن من الشعور بالألم أو الغضب الذي يجب علينا الشعور به لنجد داخلنا الطاقة التي نحتاجها لتغيير واقعنا. ببساطة رؤية الحقيقة كما هي يؤهلنا للواقع القادم ويعدنا للمستقبل، وهذا يمنحنا شعورا بالراحة.أفضل قبول حقيقة محزنة على أن أعيش في حالة من الجهل وواقع ملفق مليء بحقائق مجتزئة أو غير مكتملة تشعرني بإحساس كاذب بالسيطرة على كل مقاليد حكم حياتي. فالبراجماتية التي صقلتها في حياتي تجعلني دائمة البحث عن الحقيقة بدلا من إذكاء وهما مطمئنا. فلطالما أعانني فهم واقعي على التخطيط والإعداد والبحث عن راحة حقيقية وسعادة أصلية تتفق مع ظروفي أنا.

ولربما كان هذا هو السبب وراء تفكيري المستمر في الموت. أنا لا أخاف الموت – حتى بعد أن أنتزع مني أغلى وأحب الناس إلى قلبي – لكن الموت له رهبة وهالة وقدسية في قلبي. الموت بالنسبة لي هو الحقيقة المؤكدة في الحياة، وهو نهاية لا مفر منها. وليس هناك إنسان على وجه البسيطة محصن ضد الألم أو الخسارة أو الموت. ورغم أنه لا يمكننا التنبؤ بما تخفيه لنا الأيام، يمكننا أن نهيئ أنفسنا لمستقبل يحمل جميع الاحتمالات، وهذا سيحمينا من هذه الهشاشة النفسية التي عادة ما تبدأ بالشعور وكأننا ضحية ... ضحية الظروف ... ضحية أشخاص غلاظ القلب في حياتنا ... ضحية المولد أو المنشأ. وعلينا دائما أن نذكر أنفسنا أن الحقائق المؤلمة أكثر رحمة بنا من الأكاذيب السعيدة، أو الحقائق المزيفة، أو الكلمات الكاذبة التي تُقال للتسرية عنا.

علينا أن نتذكر أن ما يعرضه الآخرون ويشاركوننا إياه عادة ما يكون مبنيا على حقائق ملفقة تهدف إلى خلق واقع زائف وهذه الحقائق الزائفة لن تعطينا أبدًا الراحة التي تعطينا اياها الحقيقة العارية. لكن هنا يجب أن نتذكر أمرا في غاية الخطورة، يجب أن نتذكر أن الحقيقة التي أتحدث عنها يجب أن تكون حقيقة نراها نحن، وليست حقيقة يحاول الآخرون غرسها في عقولنا لإشعارنا بالفشل والضآلة. فبرغم هشاشتنا النفسية، يجب ألا نسمح للآخرين من تحديد ما يمكننا عمله وما لا يمكننا عمله. فكم من معلم زرع في عقل طالب أنه غبي ولا يصلح لدراسة علم ما ليداري فشله هو كمعلم. وكم من أم أوهمت ابنها أنه لا يستطيع الاستغناء عنها لتحافظ على اعتماديته عليها – تلك الاعتمادية التي دائما ما أشعرتها بقيمتها في الحياة. وكم من زوجة حقرت من حلم زوجها حتى يظل خاضعا لها لتداري شعورها الداخلي بالنقص. وكم من زوج سفه من آراء زوجته ليشعر برجولة زائفة وتميزا في غير موضعه.

فالأجدى ألا نبحث عن الحقيقة في عيون الآخرين، لأنهم ما إلا مرايا مشروخة تعكس لما صورا ممسوخة. وإن كونا حقيقتنا من شراذم آراء الآخرين، فإننا نصنع حياة منتهية الصلاحية عاجلا أم آجلا.

Popular Posts