خرافة الموهبة

من يعرفني شخصيا، يعرف عني عشقي للموسيقى الكلاسيكية خاصة موسيقى موتسارت، وهذا دفعني للقراءة عنه وعن حياته. منذ سنوات قرأت عن دراسة ربطت بين زيادة قدرات الطفل العقلية وسماعه وتعلمه لموسيقى موتسارت. وهكذا أصبح موتسارت شاهدا وأيقونة للموهبة الفذة.



اليوم، وأنا أقضي وقتا هادئا هذا الصباح، التقطت أحد الكتب التي كنت أؤجل قراءتها مرات ومرات للكاتب جيف كولفين. في الكتاب أخذ الكاتب يشرح ما أسماه "خرافة الموهبة"، واستخدم موتسارت للتدليل على نظريته. والكاتب لا يقلل من أهمية الموهبة ودورها ولكنها ليست العامل الأوحد ولا تصلح وحدها لخلق نجاح مدوي.
موتسارت ولد في أسرة فنية، فقد كان أبوه من ألمع موسيقي عصره ومن أبرع معلمي الموسيقى والعزف. وفي العام الذي ولد فيه موتسارت، كتب أبوه كتابا عن منهجه في تعليم الأطفال الموسيقى. وهكذا كرس والد موتسارت حياته ليعلم ابنه أصول النظريات الموسيقية والتأليف الموسيقى. وهكذا اتيحت لموتسارت فرصة هائلة أن يكون والده من أبرع معلمي الموسيقى وأن يكرس له حياته لصقل موهبته الفطرية.
وكما يزعمون، بدأ موتسارت رحلته في التأليف الموسيقي وهو في الخامسة من العمر، لكن أول قطعة موسيقية اعتبرها عالم الموسيقى مبدعة تلك التي ألفها وهو في الحادية والعشرين من العمر. فرغم أن موتسارت بدأ التأليف الموسيقي مبكرا، لكننا لا نستطيع انكار الدور الذي لعبه أبوه في توجيهه، وأخذ يصقل في مهاراته لمدة ثمانية عشر عاما حتى أنتج مقطوعة مبهرة حقا.
وإلى جانب موتسارت مئات بل آلاف الأسماء اللامعة البراقة في كل منحى من مناحي الحياة. والنظرة السطحية قد تخدعنا بخرافة الموهبة، لكن النظرة المتفحصة ستزيل الستار عن آلاف من ساعات التدريب الدؤوب والدراسة المتأنية. وهذه النظرية لخصها العلماء فيما يعرف بنظرية العشر آلاف ساعة. وهي باختصار أننا نحتاج ما يقرب من 10000 ساعة أو ثلاث سنوات لكي نتقن مهارة معينة إتقانا يمكننا من صنع انجاز حقيقي.
وخرافة الموهبة ليست بنظرية مستغربة بالنسبة لي، فأثناء دراستي لنيل درجة الماجستير في علوم القيادة المؤسسية، تعلمت الكثير عن نظريات التعلم والتحفيز. وكل ما تعلمته قادني إلى تركيزي على التدريب المستمر والممارسة والعمل. فالموهبة هي اللبنة الأولى في بناء النجاح، وأنت لا تحتاج إلى أن تكون عبقريا في مجال ما لتبرع فيه، فقط تحتاج إلى قسط يسير من الموهبة مع حب وشغف بما تريد أن تحققه، وتضيف إلى ذلك الكثير والكثير من العمل والتدريب والتعلم.
أن تكون عبقريًا في مجال ما، ليس دعوة مفتوحة لتكون مشهورا أو غنيا. فأيا ما كان الأمر الذي تريد أن تبرع فيه، الفن أو الموسيقى أو الغناء أو التصميم الإنشائي أو تجارة الأسهم في البورصة، أو حتى أن تصبح أبا ناجحا وزوجا رائعا، أو أن تصبحي مديرة إدارة أو كاتبة أو عالمة أحياء مائية، فالموهبة هي نقطة البدء يعقبها الشغف ثم العمل والعمل ومواصلة العمل. هذه هي الوصفة الوحيدة للنجاح التي آمنت بها واختبرتها مرات ومرات وتحققت منها.
وأنا عندما ألمس في نفسي موهبة ما أو بصيص ابداع، أحاول أن أقيس مدى شغفي بتلك الموهبة، وإن وجدت مقدارا من الشغف يكفي أن أكرس على الأقل سنة من عمري لهذا الأمر، فإنني آخذ على عاتقي الحصول على عدد كبير من الكتب المختصة، وأخصص على الأقل ساعة يوميا لدراسة المجال الذي شغفني وأعمل عليه عملا دؤوبا.
عندما نسعى لتحقيق حلم ما، نتمنى أن يكون الطريق معبدا وألا تتحطم آمالنا على صخرة المعوقات أو الرفض أو الظلم. لكن الحقيقة التي تتكرر مرارا ومرارا للبشر من مختلف الخلفيات العرقية والمكانية والدينية والمهنية هي أن النجاح ليس سهلا. وقد نؤمن أننا نفتقر للموهبة، بينما في الواقع قد نغفل عن مواهبنا الحقيقية وفقط نريد تقليد الآخرين. في كل منا موهبة تنتظر الصقل كقطعة من الكريستال الخشن السطح التي يعمل فيها الصائغ آلاته لتصبح تلك الجوهرة الثمينة التي لا تقدر بثمن. وحتى بعد أن نكتشف موهبتنا أو مواهبنا، فإننا نخدع أنفسنا بوهم الموهبة وحدها تكفي.
حتى موتسارت لم تضعه موهبته في مصاف الموسيقيين العظام. وليس العمل فقط، فهناك من يعملون لساعات طويلة ولا يحققون أي شيء. العمل الذي يصقل الموهبة ويذكيه الشغف هو ما يعرف بالعمل المتعمد. وهذا يتطلب خطوات متعددة من تخطيط للعمل وقياس للنتائج، والتحسين المستمر للأداء.

Popular Posts