ما الذي يجعلنا سعداء؟


قال رالف والدو إيمرسون: "مقابل كل دقيقة تغضب فيها تخسر ستين ثانية من السعادة." فهل يعني هذا إن الغضب سارق السعادة، أم أنها المقارنة وفقا لتيودور روزفلت، أم أن السعادة هي في الصحة، أو الغنى. لماذا لا يمكننا التعامل مع مفهوم السعادة إلا إذا ألحقناه بقيمة أخرى. لماذا ترهقنا الفكرة التجريدية للسعادة؟

لقرون، حاول المفكرون حصر أسباب السعادة. فعندما بدأ العالم المتحضر يعيش ويختبر رغد الحياة، أصبحنا نرى الغنى والاقتناء كرمز مقبول لرفاهية الإنسان ومن ثم سعادته. وأصبحنا نسمع المحللين الاقتصاديين يحللون الأرقام ومحددات أداء الدول والمجتمعات متغلغلين في مفهوم "تعظيم المنفعة"، أي تحقيق أقصى منفعة واستفادة من المنتجات أو الخدمات المتوفرة في مجتمع ما، وهذا ارتبط بشكل مباشر بمقاييس الدخل على المستوى الفردي وعلى مستوى الدول. لكننا أصبحنا نشكو أن المال والغنى والسيارات الفارهة والبيوت الفخمة المكتظة بالسلع ليست دائمًا أفضل مؤشر لسعادتنا. وفي الغرب قامت حركات موسعة يختار بعض الأشخاص بشكل واع متعمد أعمالاً تدر دخولا أقل من دخولهم السابقة ليشعروا بالرضا التام وسعادة لم يحصلوا عليها من وظائفهم المرموقة في السابق.

وحينما كنت أدرس لنيل درجة الماجستير في إدارة الأعمال، تطرقنا لمفهوم اقتصاديات السعادة الحديثة التي تتمحور حول المنفعة أو الاستفادة. وكل المحددات الاجتماعية، والتركيبة السكانية، والبطالة، والمناخ السياسي، والموارد الاقتصادية وفعالية إدارتها شاملة الخدمات العامة، محددات يستخدمها الاقتصاديون لتقييم سعادة الأمم. ولا أدري مدى فعالية هذه المحددات، لكنها بكل تأكيد تمكننا من مقارنة أنفسنا كمواطنين بالنسبة لمواطني الدول الأخرى، لكن هل تمكنا بالفعل من قياس سعادتنا كأفراد؟ ...

في مناقشاتي دائما ما كانت تأتي عبارة "الصحة والستر" في معرض الحديث للدلالة على ما يطمح إليه البشر بعد أن يؤمنوا احتياجاتهم الأساسية، وبعد أن يحققوا بعض النجاحات المهنية والمادية. فأحسست أن الصحة هي العامل المشترك الذي يؤثر على سعادة الجميع، أكثر من متوسط الدخل، والقوة الشرائية لعملة البلد.
فمن هم السعداء حقا ... الراضون؟ أعتقد أن أكثر من تحدثت إليهم رضا هم أكثرهم صحة مقارنة بأعمارهم، فالأشخاص الأصحاء الذين مروا في حياتي أكثر رضا من غيرهم – حتى وإن تشدق غيرهم بغير ذلك. وهذه الملاحظة أكدتها إحصائية عرضها علينا البروفيسور في محاضرة من المحاضرات ربطت بين ارتفاع ضغط الدم وانخفاض مقياس السعادة العام في أي دولة من الدول بما يعرف بدائرة السعادة والصحة. والمثير للاهتمام هنا أن نفس الاحصائيات أظهرت أن نسبة السعادة مقارنة بالدخل تعكس أنه طالما كانت معايير الصحة عالية زادت نسبة السعادة مع زيادة الدخل حتى قيمة حدية معينة بعدها لا تتأثر سعادة الإنسان بالزيادة في دخله.
فلربما تكون الصحة إذا وليس الدخل هي ما يحدد سعادة البشر. لكننا للأسف نفهم الصحة على أنها مكافحة الأمراض. لكن ما وجدته في أرض الواقع أن صحتنا النفسية والعقلية لا يقلان أهمية من صحتنا الجسدية، ولربما أثرتا في صحتنا الجسدية لدرجة كبيرة. فبعض الاحصائيات أظهرت أن الصحة العقلية والنفسية لهما تأثير أكبر على سعادة الفرد من الصحة الجسدية.

فإذا افترضنا أننا جميعا نستجيب لمحددات السعادة وأسبابها بنفس الطريقة لماذا لا نسعد جميعا؟ إذا كان الدخل ليس هو العامل الرئيسي الذي يحدد ما إن كنا سعداء من عدمه، فلماذا لا نسعد جميعا؟ لماذا تحتاج الدول لتعيين "وزير السعادة"؟ لماذا يوجد الفاسدون والمرتشون والكانزون للأموال التي لن تزيد سعادتهم؟ لماذا نسعى للمزيد من الرفاهية؟ لماذا نتسامح مع الجريمة ونقبل بالفساد حتى تعج مجتمعاتنا بهما؟ كيف نحفز الجميع للإصلاح؟ هل يعرف البؤساء المبتهجون الذين تعلوا وجوههم ابتسامة بلهاء أنهم بؤساء؟ وهل يجب علينا أن ننبههم لبؤسهم؟ لماذا نعتاد ما اعتدنا عليه؟ لماذا تفقد الحياة بهجتها أحيانا؟

أعتقد أنه ربما يكون من الأسهل القضاء على التعاسة بدلا من التركيز على السعادة. فمطاردة السعادة يجعلنا نركز على ما هو غير موجود ونعيش دائما في حالة "نقص السعادة". يمكن لأي منا أن يكون سعيدا مؤقتا، لكننا نوهم أنفسنا أنه يجب علينا أن نكون سعداء طيلة الوقت، فنظل نلهث وراء الحفاظ على السعادة.

واللهث وراء السعادة أمر تعلمت ألا أكون تحت رحمته، فقررت استراتيجية أخرى: كيف أكون أقل تعاسة. وهذا ما يجعلني أسأل نفسي كل صباح وأناجي الخالق "كيف سأحسن هذا اليوم 1% فقط؟”، لقد رأيت دائما أن المدرسة اليابانية التدريجية في تحسين أمر ما تصلح لتحسين حياة البشر أكثر من المدرسة الأمريكية الراديكالية. فمن المشاهدات التي تكررت مرارا وتكرار عندما يحصل أحد الأشخاص بمبلغ كبير للغاية من المال بشكل مفاجئ هو الزيادة المفرطة في مستوى تعاسته.... بين طمع الأقرباء، إلى زيادة العبء النفسي والعقلي لصيانة الثورة المستحدثة، لسرقة الموظفين والعاملين للثروة أو أجزاء منها إن أتيحت لهم الفرصة، لتلف الأبناء الذين أصبح تحت تصرفهم مبالغ طائلة، للوقوع في المعاصي والرذائل، أو لإدمان أمور أو مواد جديدة تحفز سعادة لحظية مدمرة.
لذلك أرى أن الزيادات الطفيفة المستمرة أحسن وأقوم من الزيادات الهائلة المفاجئة، والأفعال الصغيرة اليومية أكثر فعالية في حياتنا لنكون أكثر إيجابية، وأن احباط المشاعر السلبية لا يأتي بـ "دش بارد" لكن بـ "حمام دافئ" ويكون بتنوع خبراتنا الحياتية. ولكل منا نظام سعادة مختلف عن الآخر في المجمل، لكننا جميعا نتفق على أساسيات أولها الصحة.


كذلك رأيت أن أكثر البشر تعاسة هم من ليس لهم هدف يستيقظون كل صباح للعمل عليه. و"هدف" هنا لا يعني شيء كبير بالضرورة، فربما كان أمرا بسيط كإعداد فطور لأطفالنا. وإن لم يكن لدينا الرغبة في العمل، فذلك يعني أننا فقدنا الرغبة في السعادة. فمفهوم المنفعة الآتي من كتب الاقتصاد ربما يعني أننا عندما نشعر أننا غير نافعين، فكأننا حكمنا على أنفسنا بالتعاسة. فالنفع مفتاح من مفاتيح السعادة. لكن هناك هذه النفوس الخربة التي ترى النفع في اتجاه واحد: منفعتي أنا وأنا فقط. للأسف، رأيت رجالا قضوا أغلب أيامهم في تعظيم المنفعة التي يحصلون عليها من الآخرين، ليزدهروا زمنا – طال أم قصر – لينتهي بهم المطاف مكروهين ومنبوذين وتعساء.
وفي النهاية، إن كنا لا نملك أن نرفع معدلات السعادة في العالم، فإننا نملك أن نرفع معدلات السعادة في دائرة نفوذنا الصغيرة بدءا بسعادتنا الشخصية، وهذا يتطلب جهدًا واعيا متعمدا وتصميمًا راسخًا وقرار أن أكون شخصًا سعيدًا اليوم.

Popular Posts