حكمة هرموناتنا


أنا في هذه المرحلة التي تفكر فيها المرأة بإمعان في هرموناتها ... امرأة أربعينية تنتظر في قلق تلك الأعراض التي سمعت الأمهات والخالات والجدات يتحدثن عنها. الاضطرابات الجسدية ... الاعتلالات ... الآلام ... الأرق ... الهبات الساخنة ... التجاعيد ... والشعر الأبيض. وأنا في خضم أفكاري، تذكرتني وأنا أنتظر خارج مكتب مديرة زميلة اتفقت معها أن نراجع سويا بعض الخطط، حينما خرجت موظفة في إدارتها مندفعة ونظرت إلي وقالت لي غاضبة: "يظهر هرموناتها ناقحة عليها النهاردة." وهالني ما سمعت، فسألت زميلتي وصديقتي التي كانت تكبرني بخمسة عشر عاما وكنت أكن لها الكثير من الاحترام عن غضب موظفتها وعن التعليق السخيف الذي قالته. وبعد أن علمت أصل الحكاية، وجدت الأمر يتعلق بموظفة مهملة أخطأت خطأ جسيما وكرهت أن تعاتبها "واحدة ست زيها" مهما كانت درجتها الوظيفية وخبرتها العملية. وفكرت هل لو كان الموقف بينها وبين مدير رجل، هل كانت ستعلق على هرموناته!!!

تلعب الهرمونات دورًا كبيرًا في حياتنا لدرجة أن العلماء يمنحونها السطوة في التأثير على أفكارنا وأفعالنا وتجربتنا وتفاعلنا مع العالم من حولنا رجالا ونساء. لأن الهرمونات هي ناقلات عصبية أو مراسل بين مثلث مكون من خلايانا العصبية وعواطفنا وحالتنا الجسدية والفسيولوجية. فمثلا عندما نصاب بالتوتر العصبي تزداد مستويات هرمونات التوتر لأن الغدة الكظرية تفرط في انتاج هذه الهرمونات. وعندما سألت زوجي الطبيب عن تأثير هرمونات التوتر تلك، أجابني أنها وكأننا أطلقنا مجموعة من القردة المشاغبين في أنحاء جسدنا فأخذت تلهو وتعربد فتثير عدة منشطات في أجسامنا وربما لعبت في مستويات الأنسولين والجلوكاجون كذلك. وتخيلت وكأن عدادات أجسادنا قد أصابها الجنون.

طبعا في مجتمعاتنا عندما نتحدث عن الهرمونات، فإننا عادة ما نفكر في الهرمونات التناسلية مثل البروجسترون، والأستروجين، والتستوستيرون. ولكننا نمتلك عددا كبيرا من الهرمونات. وحتى الرجال لديهم هرمونات أنثوية والنساء لديهن هرمونات ذكورة، وأي خلل في مستويات الهرمونات كافة ينتج هذه "اللخبطة" التي قد تظهر في أمراض عضوية وأعراض مختلفة.

وعندما بدأت في قراءة الأبحاث والمقالات المتعلقة بالهرمونات والناقلات العصبية، فوجئت بأن الرجال أيضا يمرون بفترة تشبه ما تمر به النساء بعد انقطاع الحيض أو ما يسميه العامة بسن اليأس. ففي أواخر الأربعينيات، ينتج الرجال المزيد من هرمون الاستروجين (من هرمونات الأنوثة) وتنتج النساء المزيد من هرمون التستوستيرون (من هرمونات الذكورة). وتذكرت صديقتي المتزوجة من زميل دراستها وهما في نفس العمر وهي تقول لي أنها تشعر وكأن الأدوار تبدلت. فعندما بلغت الخامسة والأربعين، شعرت برغبة عارمة في الخروج والفسح واهتمت اهتماما كبيرا بعملها، بل وبدأت في الدراسة مجددا للحصول على عدد من الشهادات المهنية. في نفس الوقت، أصبح زوجها هادئا يرغب في قضاء الأمسيات الرومانسية معها، وأصبح أكثر اهتماما بالطبخ، ولم أملك سوى أن أفكر في دور الهرمونات في تغيير ميولنا الطبيعية.

ومن الحقائق العلمية التي أدهشتني هو شروط التزامن بين جهازنا العصبي السمبتاوي – الذي يتحكم في أعضاءنا الداخلية كالهضم وضربات القلب والتنفس وجهازنا البارسمبثاوي والمسئول عن التوازن في أجسامنا واستعادة قوتنا والراحة. والعجيب أن الجميع – رجالا ونساء – في حاجة لخلق التوازن الهرموني في أجسامنا، وليست النساء فقط من يعانين نتيجة اختلال هذا التوازن، لكن دائما ما اقترنت الهرمونات بالنساء. فإذا وصفت النساء دائما بتغليب العاطفة على العقل والعكس للرجال، فإن هذه الادعاءات ليست صحيحة لأن الجنسين يحتاجان خلق التوازن بين العقل والعاطفة لتحقيق النجاح والسعادة في الحياة. وإذا لم يتحقق هذا التوازن سيحدث خلل في وظائفنا المعرفية وقدراتنا الإدراكية وقدرتنا على اتخاذ القرار سواء كنا رجالا أم نساء. لكن السؤال الذي شغلني لفترة وقادني إلى رحلة بحثية هو كيف نحافظ على توازنا الداخلي؟ وهنا أنا أقصد كل العوامل التي تحقق لنا التوازن: هرموناتنا، وظائفنا، أجهزتنا، أفكارنا.

وجدت عدة عوامل مشتركة في كل ما قرأت لتحقيق التوازن الداخلي، مثل: تقليل الالتهاب الخلوي الداخلي، السكينة والتركيز الكامل للذهن والاسترخاء، التغذية الصحيحة، والحركة.

وأول مرة أعرف عن الالتهاب الخلوي الداخلي كانت عندما طلب طبيبي عمل اختبار لقياس محددات الالتهاب الخلوي الداخلي، وعرفت عندها أن نمط الحياة الذي نعيشه والأكل الذي نأكله يحدثان خللا في التوازن الكيميائي لأجسامنا ومن ثم يسببان حدوث التهابات داخلية قد تصبح مزمنة. والأسوأ أن هذه الالتهابات الداخلية هي التي تسبب الأمراض المزمنة كداء السكري مثلا.

وأنا في رحلة البحث عن توازني الداخلي، عزمت على تغيير نمط حياتي وحياة أسرتي، والأسلوب الذي نأكل به، وطريقة تعاملنا مع بعضنا البعض، بل أجبرت نفسي على مزاولة اليوجا وداومت على جلسات التأمل والاسترخاء يوميا – الأمر الذي كان غاية في الصعوبة.

وفي رحلتي للتعافي هذه تعلمت كيف أننا لا نحسن التنفس، ودائما نحدث خللا هرمونيا في أجسادنا بإدمان الطعام والسكر والسلوكيات المحفزة مثل ألعاب الفيديو ومشاهدة أفلام العنف ونشرات الأخبار وإدمان السوشيال ميديا. ومع مرور الوقت والمحاولات المستمرة كي لا أخرج من المضمار، والدائرة الجهنمية من الفشل الذي يطارد النجاح، بدأت أشعر ببعض التوازن الذي كنت أبحث عنه. وأثناء قراءاتي، تعلمت أن هرموناتنا قد تكون بوابتنا للحكمة والحياة الجميلة.

فتوازنا الهرموني لا يحتاج للتدخل الخارجي إلا بعد أن نبذل قصارى جهدنا لإحداثه داخليا. فمنع السكر الأبيض والدقيق الأبيض والملح، كانت الخطوة الأولى في تغيير نمط حياتي أعقبها السير لمدة ساعة يوميا، دون التقيد بسرعة معينة، وتحديد أوقات معينة للاطلاع على السوشيال ميديا، وجدولة أوقات لأتحدث مع من أحب بكامل تركيزي وتحديد ثلاث أولويات يومية فقط، كلها كانت خطوات بسيطة لكنها مؤثرة في رحلتي للتعافي. بعد أن تأصلت عاداتي اليومية في المرحلة الأولى، بدأت في إدخال جلسات التأمل واليوجا بشكل يومي.

لكن للأسف أحيانا تلقي الينا الحياة بالمصاعب والمعرقلات فنحيد عن المسار، وهذا ما حدث لي بالفعل. لكنني لم أسمح لنفسي بالتقهقر رغم الخسارة الصحية الجسيمة التي لحقت بي عندما فقدت أبي ومرضت وقضيت شهرين في حالة توتر شديد أحسست بعده أنني مت داخليا.

ولأعيد نفسي إلى المسار الصحيح، ركزت فقط على ما أقوم به في الساعة الأولى بعد أن أصحو من النوم. فما نفعله في الصباح يحدد وتيرة اليوم كله. ولم يكن هذا صعبا عليّ، فلطالما استقطعت لنفسي ساعة قبل أن يصحو طفلاي وهما صغيرين، وكنت أقضيها في تهيئة نفسي لليوم. لذلك عندما تسألني الأمهات الجديدات عن نجاحي المهني وكوني زوجة وأم في ذات الوقت، أعزو هذا النجاح "المفترض" إلى تعلمي الدرس مبكرا واهتمامي بنفسي وجسمي وصحتي النفسية والعقلية. وكان "اعتزل ما يؤذيك" شعاري الذي كنت أذكر به نفسي من آن لآخر.
ولأنني تربيت في عائلة طالما تبنت سيداتها مبدأ "الآخرون أولا"، رأيتهن وهن يعانين من الأمراض التي يحفزها التوتر وتجاهل الألم. فمنهن من أصيبت بفتاق وأخرى بانزلاق غضروفي وثالثة بقرحة المعدة ورابعة بمرض مناعي عضال، وغيرهن كثيرات. وأتذكر بعض القصص التي كانت متداولة في الجلسات العائلية عن فلانة التي أكملت أعمالها المنزلية بيد مكسورة، والثانية التي رفضت علاجها لأنها لم تحتمل الغياب عن المنزل للعناية بأولادها "المراهقين". وكأن منتهى التضحية والتفاني أن لا تعتني السيدة بنفسها وصحتها إلى أن تنهار، حتى عندها ستجد من ينكر عليها الراحة.

وهكذا أصبحنا نسمع ونقرأ عن هرمونات السعادة وهرمونات التوتر وهرمونات الشجاعة وغيرها. وعرفنا كيف أن أفعال صغيرة قد تحدث خللا في توازننا الهرموني، فمثلا، التنفس السريع من الفم يوهم الجهاز العصبي أننا في حالة خطر فيسارع في انتاج هرمونات التوتر لمواجهة الخطر المفترض. لذلك، عندما بدأت في ممارسة تمارين التنفس – رغم عدم ارتياحي في بداية الأمر – بدأت أشعر بهدوء لم أشعر به من قبل، وتضائل احساسي بالإجهاد رغم أنني لم أخفف من مسئولياتي تجاه أسرتي وعملي، بل، وقلت أيضا نوبات الحساسية التي كنت أصاب بها بشكل شبه يومي، وكأن جهازي المناعي هدأ ولم يعد في حالة التحفز الدائم التي عهدتها منذ أن كنت أبلغ من العمر ثلاثة شهور وأخذتني والدتي لطبيب الأطفال الذي أخبرها عن احتمال إصابتي بقائمة طويلة من "الحساسيات". ومع مرور الوقت، انتظم تنفسي أكثر وأكثر، وتغيرت طريقتي في التنفس والكلام والأكل والشرب.
ومع نمط الحياة، نجد أن نظامنا الغذائي الفقير في كثير من المعادن والعناصر الغذائية يجعل هرموناتنا غير متوازنة، فأغلب النساء في مجتمعاتنا الشرق-أوسطية يعانين من نقص المغنسيوم والكالسيوم وفيتامين د والحديد. لأننا للأسف بدلنا الكثير من عاداتنا الغذائية، فاستبدلنا الخبر البلدي أو الأسمر بالفينو والكايزر والمعجنات، وأصبحنا نتناول الكثير من الحلويات التي لم تكن متاحة بهذا الكم وهذا التنوع في العقود السابقة. كما امتلأت أطعمتنا بالمواد الحافظة التي يتعامل معها الجسم كسموم.

وللأسف عندما نشعر بأية أعراض، ويأمرنا الطبيب بعمل التحاليل، وتأتي هذه التحاليل بأرقام غير مستحبة، فأطباءنا يعطوننا الأدوية دون التشديد على تغيير نمط الحياة ونظامنا الغذائي. قبل وفاة والدي، كان يتناول 15 حبة دواء يوميا غير جرعات الأنسولين. فجعلني هذا أفكر مرة في نمط الحياة الذي عاشه وتشبيهه لحياته كقيادة سيارة تسير على "الجنط"، أي الإطار المعدني لعجلة السيارة عندما تفرغ من الهواء. وتذكرت ندمه على هذه الحياة، وعدم تنبهه لتغيير أي شيء في حياته.

ومع نمط الحياة ونظامنا الغذائي، تأتي السوشيال ميديا ووسائل الإعلام لتضيف لحياتنا المزيد من الضغوطات. وأصبحنا ندمن هواتفنا النقالة، وندمن الألعاب، وندمن أي شيء. أي شيء في حياتنا يمكن أن يتحول لإدمان عندما نقضي الساعات في القيام به بشكل يزيد عما هو مفروض. عندما يختل جدولنا اليومي، يختل توازنا الهرموني. فساعات اللعب قد تعطي جسم الشاب إشارات زائفة لإنتاج المزيد من الدوبامين (أحد هرمونات السعادة)، فلا يهتم بدراسته ولا بزوجته الجديدة ولا بأسرته ولا بأي شيء سوى تحقيق "سكور" جديد.

ومع اختلال توازنا الهرموني نفقد ذكاءنا الفطري ونفقد الاتصال بجانبنا الروحاني ونقع فريسة القلق والاكتئاب ونصبح أسرى لأنشطة خاوية تعطينا إحساسا زائفا بالسعادة والنشوة. كذلك فقدنا احساسنا بما تحتاج اليه أجسادنا وعقولنا، فأصبحنا نقاوم النوم، نتجاهل الألم، ونقود حياتنا على "الجنط" وأصبحت أعمارنا البيولوجية تفوق أعمارنا الزمنية بسنوات وسنوات.

Popular Posts