من الفوضى للاستقرار

طالما قد تسائلنا "كيف يمكننا أن نحب الحياة وأن نكون سعداء كل يوم، حتى عندما لا تسير الأمور دائمًا حسب ما نشتهيه؟" ونطرح السؤال الذي حاول الفلاسفة وعلماء الدين وغيرهم الإجابة عليه منذ أن عرفنا أن لنا عقولا : هل نحن مخيرون أم مسيرون؟



كل منا يمضي في طريقه كل دقيقة في كل ساعة في اليوم خلال عمرنا الذي نعيشه على هذا الكوكب تدفعنا مئات الآلاف من قطع الأحجية الصغيرة والتي تحركها اختياراتنا التي استقرت عليها قلوبنا وعقولنا، ومن ثم تحدد من نكون.
وأنا لا أدري متى وكيف أصبحت هذا الإنسان المهتم حقًا بعيش أفضل حياة ممكنة، وكأنني طيلة حياتي منذ يوم ولادتي وقلبي مفعم باليقين أننا على الرغم من تقدمنا في العمر، لم ولن يفت الأوان أبدًا كي نعيش حياة غير عادية ربما ترقى أن تكون استثنائية في روعتها، ولا أدري من على وجه التحديد الذي زرع في عقلي أن كل منا إنسان متفرد وأننا جميعا خامة طيبة للنجاح لكننا نحقق هذا النجاح بطرق مختلفة، وأن كل منا يمكننا أن نعيش حياة كاملة مرضية حقًا.
ونحن نشق طريقنا في الحياة، فإما أن نكون في حالة استقرار، أو حالة فوضى أو معاناة. وهذا ما درسته لأي نظام بيئي. فأي نظام، إما أن يكون في حالة استقرار أو حالة فوضى. وأنا أؤمن أننا نكون في حالة استقرار عندما يملئنا الحماس والحب وتقدير الحياة. وعندما نكون في هذه الحالة، فإننا عادة ما سنختار الأفضل والأصلح لنا ولمن نهتم بهم. وتأتي عندها القرارات الصائبة دون جهد ودون ارهاق نفسي. أما عندما تعترينا حالة الفوضى الداخلية – والتي قد تنعكس أيضا على عالمنا الخارجي - نشعر بالإحباط والارتباك والقلق.
وفي مرحلة من مراحل حياتي لاحظت أن حالة الفوضى والمعاناة ربما تعترينا دون أي علاقة بمدى روعة حياتنا، فقد تكون الحياة رائعة في الخارج، فأنت تعمل في وظيفة رائعة، أطفالنا سعداء وعائلاتنا مستقرة، وليس لدينا ما يدعو للقلق. وعلى الرغم من كل هذه الأشياء الرائعة وجدت من يعانون من الداخل ولا أحد يعرف عنهم ذلك. وأذكر عددا من الأشخاص الرائعين الذين مروا بحياتي، الذين أسروا لي أنهم رغم ما حققوا من نجاح في حياتهم المهنية وبدا لمن حولهم أنهم يستمتعون يحياتهم ولكن في دواخلهم كانوا يعانون معاناة عظيمة. لذلك عندما نتعلم كيفية استخدام ما نمتلك من حيل للحفاظ على حالة الاستقرار الداخلي تلك سيمكننا مطابقة باطنا بظاهرنا.
ولم أستطع حصر عدد المرات التي سمعت فيها عبارة "فات الأوان" من أشخاص قاوموا فكرة أنه يمكننا حقًا البدء من جديد في أي عمر، واكتظت مناقشاتنا بسجالات بين من يؤكد أننا أبدا لن نستطيع تحقيق حالة الاستقرار، خاصة إذا تخطينا عمر معين وبين من يعارض هذه القناعة القاصرة مثلي. يمكنك البدء في عيش حالة الاستقرار تلك في أي عمر وتحت أية ظروف، بل وأن تكون في تلك الحالة الجميلة من السكينة والهدوء معظم الوقت.
لدينا جميعًا المشاكل والتحديات والمعرقلات، ولم أقابل انسانا واحدا خلت حياته من المنغصات. ولكن منا من يسمح للتوتر أن يحكم حياته، حتى أنا أحيانا أقع في هذا الفخ عندما أدع الأمور الصغيرة التافهة تزعجني وتعكر صفو حياتي. لكنني تعلمت أن أهم الخطوات لحل أية مشكلة تقابلني هو أن أحافظ على طاقتي، ولا أسمح لمن حولي أن يمتصوها، فأنا أحوج لطاقتي النفسية والجسدية والعقلية، وأنا الملومة في السماح لهم باغتصاب طاقتي وبالتالي تقويض حالة الاستقرار وتحويلها إلى فوضى. وفي حالة الاستقرار يمكننا أن نرى الأمور بوضوح، والناس من حولنا على حقيقتهم.
ومن أهم عوامل حالة الاستقرار بالنسبة لي هو الرضا. وهنا لا أعني الرضا الضعيف مهيض الجناح، أو قلة الحيلة المغلفة برضا زائف وعبارات خاوية من المعنى. ولكن الرضا النابع من بذل قصارى جهدنا لتحقيق ما نبغي. ومن الأسهل كثيرًا التعامل مع الفوضى التي تحدث من حولنا عندما يملأ الرضا قلوبنا، لكن عقولنا في حالة الفوضى تكون مرهقة مذعورة، والأسوأ أننا نكون غير قادرين حقًا على التواصل بشكل جيد مع الناس من حولنا. عندها نشعر بكراهية مجهدة لمن هم مفترض أن يكونوا أحبابنا، فنشعر بالاستياء من شريك الحياة وأبناءنا وبناتنا وذويينا وزملاء العمل وغيرهم في دوائر علاقاتنا الأسرية والاجتماعية.
وفي حالة الفوضى الداخلية، قد تتجمد قدراتنا على التواصل مع من حولنا، أو الأسوأ، أن نكون في حالة تحفز دائم. وبدلا من أن نحل المشكلات نتسبب في تعقيدها أكثر وأكثر، وقد نسمح للآخرين بتقويض طاقاتنا النفسية، أو الأسوأ، أن نكون نحن من يقوض طاقات من حولنا النفسية، فنصبح نحن المشكلة.
عادة عندما نشعر بالضيق في كثير من الأحيان، نبني مشاعرنا على توقعاتنا بما يجب على الآخرين فعله. وفي خضم الفوضى الداخلية، قد نفقد قدرتنا على قراءة الواقع وتحليله تحليلا صحيحا، فنضع توقعات مبالغ فيها، ونفشل في ايصال مشاعرنا وتوقعاتنا للآخرين، فنقع – نحن وهم – في حالة تخبط غير محمودة. على سبيل المثال عندما يفعل زوجي شيئًا ما يزعجني حقًا ومغايرا لتوقعاتي منه، أحاول أن أتوقف وأن أسأل نفسي، هل أوضحت له أن ما يفعله يزعجني؟ ... هل شرحت له لماذا يزعجني هذا الأمر؟ ... هل أشرت له بأصابع الاتهام واللوم الجارح، فتسببت دون أن أدري في ردة فعل غاضبة من تجاهه؟ ... هل لدي خطة للتعامل مع هذا الفعل المزعج إن تكرر؟ في نفس الوقت، لا أفقد ايماني به تماما، فمثلما قام بما يزعجني، فقد قام بالعديد من الأفعال التي أسعدتني ولا زال يبذل قصارى جهده لإسعادي.
وأحيانا أجد أننا نحن من يخلق الفوضى النفسية والفعلية في حياتنا، عندما نعطي للأمور أكبر من حجمها الحقيقي، عندما نهمل وضع نظام محكم لإدارة حياتنا، وعندما نتغاضى عن تبسيط حياتنا ودائرة علاقاتنا، بل وبيئاتنا التي نعيش فيها. وأحيانا أشعر أننا نعيش عالما مختلفا عما عاشه آباءنا وأجدادنا، بكل ما فيه من تحديات وتوقعات وأشياء. ورغم أن كل شيء في متناول أيدينا، فقدنا الصبر ... فيتقلب مزاجنا حسب سرعة الانترنت، ونكسل في الذهاب بضعة أمتار لنشتري الدواء من الصيدلية المجاورة. حتى في علاقاتنا مع الناس، نريد أن يتم كل شيء بسرعة. فالصبر والتقدير نعمتان فقدناهما في خضم التطور الذي صنعناه.
وعندما تعتريني حالة الفوضى تلك، أسأل نفسي كيف ستخدمين العالم حولك؟ ما الذي يحتاج إليه الآخرون والذي يمكنك تقديمه لهم بموهبتك وقدراتك؟ لقد تعلمت أن قيمتي الحقيقية فيما أحله من مشاكل وليس فيما أسببه. فقط على أن أتخذ خيارًا واعًيا لإدراك التحديات والمشكلات والمنغصات على أنها فرص للتحسين أو لتصحيح المسار.
كذلك تعلمت أن الإيمان في غاية الأهمية. وأنا هنا لا أعني الإيمان الديني، ولكن الإيمان والأمل في أن القادم دائما ما يكون أفضل، حتى وإن تنكر في صورة تحدي أو عائق. لكننا أحيانا نقسو على أنفسنا وعلى من حولنا بالإصرار على العيش في ماض لن يعود، أو تخيل أشباح وهمية. الكثير منا يختار طريقه في الحياة بدافع الخوف المقنّع في صورة تفكير منطقي وعملية. لقد أخبرني والدي أن أكثر القرارات التي ندم عليها كانت قرارات شعر فيها بالخوف وأحجم عن المخاطرة. ونصحني ألا أتخلى عن شجاعتي ورغبتي في بعض المخاطرة المحسوبة، حتى لا أفقد هويتي الحقيقية وأسعد في حالة استقرار زائف. فعندما نكتب سيناريو حياتنا بحبر الخوف، فإننا نحبس أرواحنا في زنزانة متخيلة.
ولتحقيق حالة استقرار حقيقية في مواجهة عالم من التعقيد، وجدت أن البساطة أكثر نفعا من أي شيء آخر. وهذه البساطة تحقق الوضوح الذي نحتاجه لتقييم الأمور والتركيز على الهدف الأسمى لحياتنا، حتى لا ننسى فرديتنا في ثقافة مجتمعية تلقي في طريقنا بصنوف المعرفة "اللي ملهاش لازمة" والتي لا تفيد، وتصلنا ببعضنا البعض بشبكات متداخلة تفقدنا قيمة التواصل الحقيقي والقرب النفسي. فلنتعلم أن نبقي أمور حياتنا بسيطة لنحافظ على حالة الاستقرار.

Popular Posts