المصارعة الزوجية الحرة

"كل الأزواج بيتخانقوا"، حقيقة سمعتها من كثيرين وكثيرات وأصبحت مسلمة من مسلمات حياتنا. بالنسبة لي الخلاف هو جزء لا يتجزأ من أي علاقة، وهذا أمر طبيعي. لكن الغير الطبيعي بالنسبة لي هو الصراع الذي يتفاقم ليصبح شجارا. الخلاف من الاختلاف، والاختلاف له أدب وله أساليب نتعلمها منذ نعومة أظافرنا للتعامل معه، والاحتكاك بين أي اثنين في أي علاقة قد ينتج اختلافا والذي بدوره ينتج خلافا. لكن أن يكون الصراع هو المهيمن على نتيجة الاحتكاك، فهو أمر غير طبيعي، يتحول الزواج حينها لحلبة مصارعة حرة. فالصراع لا يحقق الحميمية المطلوبة بين أية أطراف. والأسلوب الذي نتعامل به مع أي خلاف قد ينشأ بيننا وبين أزواجنا يحتاج "لفصفصة" لنعرف عن أنفسنا ما لم نكن نعرفه. الطريقة التي نستجيب بها للخلافات تفضح الكثير عنا.



أسر لي صديق من أصدقائي كيف أنه يواجه صعوبة شديدة في التعامل مع الخلافات التي تنشأ بينه وبين زوجته. وكان السبب الرئيسي بالنسبة له هو أنها "عاطفية جدا وأنا جامد جدا." وبعد أن حاول التبرير والايضاح والدفاع المستميت عن موقفه، اعترف كيف أنه يتعمد ايذائها بالكلام، والمعايرة، والاستهانة بمشاعرها. لكن سنوات من هذه المعاملة "جمدت قلبها" فأصبحت ترد له الصاع صاعين. ولم تعد كلماتها تؤذيها. قلت له:" لقد أماتت كلماتك روحها." فنظر لي مصدوما في تعليقي، لكنه طأطأ رأسه بعد ذلك وقال لي: "يمكن."
ليس فينا من هو مثاليا، ورغم أني حصلت على لقب "الفتاة المثالية" و"الطالبة المثالية" و"المرأة المذهلة" عدة مرات في حياتي في مسابقات عديدة، إلا أن مبدأ المثالية يخيفني. ودائما ما كنت ألاحظ من حولي وكيف يتعاملون مع بعضهم البعض. ومنذ أن كنت زوجة شابة صغيرة، قررت أنا وزوجي أن ننمو سويا وأن نتعلم من أخطائنا.
وفي الخلاف يختلف النساء عن الرجال في التعامل مع الاحتكاكات والصراعات، فمن "ينشأ في الحلية" من البنات والسيدات قد يلجأن لما يسمى بالعدوان السلبي، وقد لمسته بقوة في حياتي العملية، فأقوى صراعاتي المهنية كانت مع سيدات وكانت دائما ما تحاك في شكل ردود ساخرة، أو تقليل من شأني، أو شكوى في الخفاء عن أمر متوهم. لذلك لم أستمتع بعملي إلا حينما كان خاليا من النساء وكانت هذه الفترات من أنجح المراحل في حياتي العملية.
فالعدوان السلبي التي تبرع فيه النساء والبنات – خاصة في مجتمعاتنا التي حملت بأوزار ثقافة الحرملك – أسرع السبل لقتل الرومانسية والحب بين الزوجين. وليس الحب فقط هو ما يموت، بل الثقة والاحترام. وليست فقط النساء من هن قادرات على العدوان السلبي، فهناك الكثير من الرجال أيضا يوظفون هذا الأسلوب في التعامل مع زوجاتهم، وكل ما ينتج عن ذلك ما هو إلا شروخ في علاقة قد تبدأ جميلة وتنتهي بصدع لا يعالج.
وبعيد عن المواجهة الدامية أو العدوان السلبي، كيف يمكننا التعامل مع اختلافاتنا وخلافاتنا؟ أعتقد أنه لا يوجد إلا منهجين: التجاوز اللطيف، أو المواجهة الحصيفة. فإذا لم تكن المشكلة كبيرة بما يكفي لإثارتها، فيمكننا التغاضي عنها. أما إن كانت أكبر من التغاضي وقد تصبح من مؤرقات الحياة فالمواجهة الحصيفة أفضل، بدون نظرات ذات مغزى، ولا تهكمات، ولا تشنجات صوتية، ولا ممارسة ضغوط ليشعر الطرف الآخر بالذنب أو أنه "مزنوق في ركن."
أعلم تمام العلم أن قول هذا الكلام قد يكون أسهل من فعله وتطبيقه، وأنا نفسي قد وقعت فريسة لما اعتدت عليه، أو ما رأيته في بيتنا وأنا صغيرة. لكنني وجدت بأنه عندما أقرر التعامل مع الخلافات وفق ما هو صحيح، تحسنت قدرتي على تجاوز ما أستطيع تجاوزه بلطف ومواجهة ما أستطيع مواجهته بحصافة.
"عاوزين نتكلم"، جملة يهابها جميع الأزواج، ويؤلفون عنها النكات التي تملأ صفحاتنا على الفيس بوك. وحينما يسمعها الرجل، أتخيله كعبد الفتاح القصري بصوته المميز يهمس داخله "يا منجي من المهالك يا رب." ونحن النساء بارعات في اختيار اللحظة الغير مناسبة لمناقشة قضايا مصيرية. فمثلا أتذكر حين بدأ زوجان في "النقار" أمام الجميع على مائدة السفرة في تجمع عائلي نتيجة لتعليق – لم يكن موجها لأي منهما – ولم تستطع الزوجة كبح الفرامل لتوقف اندفاع الجمل الدفاعية والاعتراضية التي خرجت من فمها تدفع عن نفسها تهمة لم تكن مقصودة بها.
أعتقد أننا غالبًا ما نثير المشاجرات والنقاشات الدموية في أسوأ الأوقات لأننا نشعر بالمشاعر الثقيلة التي تجاهلنا التعامل معها وهي مرحلة مبكرة فنجد جرحا عميقا قد فتح في غير موضعه. وأسوأ وقت يمكن أن تنضح فيه مشاعرنا الثقيلة هذه عندما نكون في موقف يدعو للسعادة والبهجة. فعندما نكون في قمة، نضن على أنفسنا فنتحدث عن أمر يطرحنا إلى قاع.
وكلامي هذا لا يعني أن "نمشي على قشر بيض" طوال الوقت خشية ازعاج أزواجنا فيتأجل الحوار مرات ومرات، لكن ما أعنيه هو أن نختار الأوقات المناسبة لمثل هذه المحادثات الجادة، وأن نرتب أفكارنا حتى لا تخرج كلماتنا خالية من العقلانية فنزيد من حدة الموقف، ومن المحتمل أن نجعل الأمور أسوأ بسبب عوامل أخرى مثل أو الاستماع للآخرين دون تمحيص ما يقولونه لنا من نصائح، أو زيادة اضطراب المشاعر الذي قد يصل للانفجار.
ومن أحمق الأسئلة التي يمكن أن يسألها كل منا للآخر "متى يمكننا التحدث عن س أو ص أو ع"؟ فالحكمة هنا أن نفهم سلوكيات الطرف الآخر ونحدد نحن إن كان الوقت مناسبا أم لا. وربما يكون الزوج منغمسا في أمر قد يبدو تافها للزوجة مثل مشاهدة ماتش بين الأهلي والزمالك مثلا، فتعتقد الزوجة إن الوقت مناسبا. وليس بين الأزواج فقط، فقد تعلمت ألا أحدث واحدا من ولداي عن موضوع مهم وهو يلعب فيديوجيم مثلا، لأنه يحتاج كما هائلا من التآزر السمعي والبصري والحركي والتركيز رغم أن الأمر لا يتعدى كونه لعبة من الألعاب.
وعندما نقرر تأجيل مناقشة أمر ما حتى وقت أفضل، فهذا لا يعني أن نسمح بالمشاعر بالفوران داخلنا، وهذا الحوار المتوهم الذي تبرع عقولنا في حياكته فنصبح قساة في تعبيراتنا، عدوانيين في نبرة أصواتنا، ومتحفزين للانقضاض على من أمامنا.
ومن أسوأ الأمور أن نتخلى عن خصوصيتنا بمحض إرادتنا متوهمين أن ذلك جزء من الصداقة. والخصوصية هنا قد يختلف تعريفها من شخص لآخر. فلربما أنشر صورة من صوري مع عائلتي في سفر أو نزهة أو مطعم ما، ولا أجد حرجا في ذلك لأن حدود الخصوصية بالنسبة لي تشمل أمور أخرى، لكن شخص آخر يرى أن مثل هذه الصورة العائلية تقع في حدود الخصوصية بالنسبة له ولأسرته. ولربما أفصحت صديقة في جلسة هادئة مع صديقاتها عن أمر تعتبره صديقة أخرى أمرا خاصا لا يصح التحدث عنه.
وعلى الرغم من عدم وجود قاعدة تحدد على وجه الدقة ما يقع في إطار الخصوصية، فلكل منا مجس حساس يزن به الأمور. وأنا حريصة جدا فيمن أعتبرهم مرشدين وناصحين لي، ولربما تحدثت في أمر مع شخص ما أو صديق مقرب أجده أمرا غير مقبولا للتحدث عنه مع شخص آخر. فحياتنا ليست واحة غناء دائما، لكن فيها هذه المستنقعات الموحلة والخوض فيها لن يؤدي لخير أبدا. ببساطة، من نعرض عليهم أمورنا ليسوا متزوجين من زوجك أو زوجتك، ولا يفهمونهم ولا يعرفون دقائق علاقاتكما. والأسوأ، الشكوى الدائمة تبعث على الكراهية، كراهية الأصدقاء أو الأقارب لهذه الزوجة أو هذا الزوج، وتلك الكراهية ستنعكس على الصورة التي يكونها لهم وعلى آرائهم، بل ونصائحهم أيضا.
والشكوى لأطراف خارجية أيضا تقوض الثقة، بل وتسئ إلى الشاكي. فليس للعالم الحق أن يعرف عن خيانة زوجك أو سلاطة لسان زوجتك. فقط خاصة الخاصة والذين سيتم اشراكهم في حل النزاع هم من يحق لهم معرفة أدق التفاصيل للمساعدة في حل المشكلة. وللأسف، كثير من الأزواج والآباء والأمهات على أتم الاستعداد لمناقشة سمات أزواجهم وأبنائهم السلبية مع أي شخص يستمع إليهم.
وفي النقاش عادة ما يختل التوازن بين المنطق والعاطفة، وهذه الديناميكية مختلة التوازن يمكنها أن تضع المزيد من الضغوط على علاقاتنا. ولا يوجد حوار خال من العاطفة تماما أو من العقلانية تماما. والتحدث عن العواطف والمشاعر والانفعالات يحتاج للمنطق، والمنطق يحتاج للعواطف والمشاعر، وأي نقاش يفتقد لأي منهما ما هو إلا نقاش أعرج سيصبح كسيحا بسرعة مع احتدام الحوار.
وقد وجدت أن التحدث عن لماذا نشعر بما نشعر به لا يقل أهمية عن التحدث عن المشاعر، فذلك يساعدنا على فهم أنفسنا ويساعد الطرف الآخر على فهمنا أكثر، ويقربنا باعا من إيجاد حل لمشكلتنا. كذلك التحدث عما أريده وأتوقعه، وإن كان تصرف الطرف الآخر مغايرا لما أريده وأتوقعه، فهذا لا يعني الإهمال أو التجاهل، إنما ببساطة عدم الدراية والمعرفة.
ومما يجعل صراعاتنا محتدمة دائما التعميم وفتح الدفاتر القديمة وإلصاق الصفات، فحلبة المصارعة لا تحب أن تكون خاوية، يجب دائما إيجاد سبب – أو أسباب – لتبادل الاتهامات. سهل أن نقول "انت دائما سايب جزمتك في نص الصالة" أو "انت دايما بتسفه أفكاري" أو "هو انت لازم تبص على أي واحدة ماشية" أو"انت بخيل". وبالفعل، ربما يكون بخيلا، أو أنه ينظر لأي أنثى ويتفحصها من رأسها لأخمص قدميها، أو أنه دائما ما يتجاهل آراء زوجته، لكن وجود الصفة أمر والتحدث عنها أثناء مشاجرة أمر آخر خاصة عندما تكون الصفة متأصلة في شخصية الزوج أو الزوجة. فالزوج "البصاص" لن يكف عن ذلك إلا إذا جاء الوازع من داخله، والزوج البخيل لن يتخلى عن بخله أبدا، والزوج الذي لا يحترم آراء زوجته لن يتحول لمؤمن بها وبقدراتها بين عشية وضحاها. لذلك دائما ما أقول لمن هم مقبلون على الزواج ألا يتغاضوا عن عيب ظنا منهم أنهم قادرون على تغيير الطرف الآخر. فلن يتغير إلا من أراد التغير.
ورباطة الجأش هي ما نحتاج إليه لنظل في موقع المتحكم حتى ينتهي التعامل مع الخلاف. ورباطة الجأش أمر داخلي يمكن التظاهر به حتى نتمكن منه ونجيده تماما. فالصوت الهادئ والأفكار المسلسلة والتماسك واختيار الكلمات والثبات الجسدي من الأمور التي تمكنا من التظاهر برباطة الجأش في بادئ الأمر. وأنا أعترف أن هذا ليس أمرا هينا بالنسبة لي. فحتى بدون وجود خلاف أو صراع، فما أن يصيبني الحماس لموضوع ما حتى تزداد سرعة كلامي، فتتلاحق أنفاسي، ويعلو صوتي، حتى وأنا أضحك أو أتحدث عن أمر مبهج. وفي هذه الحالة، تتمكن العاطفة – سواء سلبية أم إيجابية – من زمام الأمور. والأمر يحتاج تدريبا صارما كتدريب المجندين في معسكر تدريب.
لقدد لاحظت أنه عندما تزداد الاحتكاكات العادية في الحياة اليومية قد تزداد الفجوة بين الأزواج. وتكرار المشاحنات على منغصات صغيرة تقع أغلبها تحت نطاق ما أسميه "إدارة الحياة" يجعل الزوجين متحفزين للشجار والصراع. لذلك عندما نتصادم مع بعضنا البعض كتلك اللعبة التي نلعبها في الملاهي حيث تتصادم السيارات الكهربية نفاجأ في حياتنا الواقعية أن هذا التصادم مؤلم، موجع للروح، ومرهق للأعصاب. لذلك، فلربما أتحدث عن مهارات "إدارة الحياة" بتفصيل وتوسع في المقالات القادمة لنوقف ماتشات المصارعة الحرة التي تضج بها بيوتنا.

Popular Posts