كليوباترا السابعة

خدعونا وصوروا لنا كليوباترا امرأة تذهب الأنفاس وتسكر الأنظار بجمالها ... لم يخبرونا عن كليوباترا الإغريقية التي ضيعت تراب مصر وأدخلت الرومان وحولت مجرى التاريخ سوى أنها كانت جميلة الجميلات التي بهرت قيصر وأنطونيو بعينيها الناعستين وبشرتها الألبستر المتلألئة. لكن – ويا لخيبة الأمل – أظهرت تماثيلها المعدودة وبضع قطع العملات المتناثرة ملامح مغايرة لتلك الصورة التي طبعت الكتب وألهبت خيال مخرجي هوليود. كانت كليوباترا امرأة غليظة الملامح ذات أنف معقوف وذقن دقيقة تزيد من ضخامة ملامحها وانعدام تناسقها، ورقبة غليظة ربما دلت على بنية ممتلئة وربما مترهلة. وفي كل عصر، يتخيل المعاصرون كليوباترا أيقونة جمال لها مواصفات خارقة تلهب خيال الرجال وتثير حسرة النساء. فتظهر من خلال الكلمات بجمالها المثالي ومواصفاتها الخارقة.



وعندما حاولت روما تشويه صورتها، حاكت أجهزتهم الإعلامية حملة اتهمتها بممارسة السحر ونسج التعاويذ لتسيطر على قلوب الرجال، واستخدام جمالها وحيل بنات حواء لإغواء أعتى المقاتلين، وألفوا قصصا حول جمالها الذي لا يقوم وقريحتها التي تأتي بالخدعة تلو الحيلة.

لكن بعض أقلام مؤرخي عصرها دلتنا على حقيقة جمالها وجاذبيتها. كان ذكاءها وكاريزميتها وقدرتها على استخدام كل مواهبها حتى نبرة صوتها، كل هذا كان صندوق الأدوات الذي ركنت إليه لتفوز بالحكم وتظل على سدته عشرين عاما وتحافظ على رخاء واستقرار مصر في عالم يعميه الدم ويصمه صليل السيوف. وهذا بالنسبة لي مقبولا بدلا من عزو قوة تأثيرها على رجال في قوة يوليوس قيصر ومارك أنتوني بمحض الجمال. فمثل هذان القائدان كان عندهم العشيقات والجواري والغانيات على كل شكل ولون.

مما قرأته عنها، أعتقد أن أنوثتها (الأنوثة لا تعني الجمال) وثقافتها جعلتها على دراية بالنفس البشرية ومعرفة بما يحرك الرجال والنساء، وأعطتها جرأة وحبا في المغامرة بنفس قدر جرأتها وحبها للرومانسية، وليس شعرها أو عينيها أو أنفها وفمها.

وفي حواري مع بعض الأصدقاء تنبهت أن معظمنا لا يعرف عن كليوباترا غير الجمال والخداع وشغفها بأنطونيو وانتحارها. لا يعرف الكثيرون منا عن سبع لغات مختلفة كانت تجيدها كليوباترا، أو شغفها بالرياضيات والحساب والعلوم الطبيعية والكيمياء. وبينما سنظل نتذكرها كالملكة التي أضاعت عرش مصر، لن يمكننا أن نتذكر أنها حاولت جاهدة حماية هذا العرش بكل ما أوتيت من قوة دبلوماسية، لكنها كانت تحارب إمبراطورية. وستظل صورة المرأة العاشقة اللعوب الماجنة التي عماها الحب عن الحرب، هي الصورة التي أعادت هوليود تدويرها في فيلم تلو الآخر. فقصص العشق والغرام تلهب شباك التذاكر وليس مهارات امرأة أو ذكائها أو شغفها بالعلم والتعلم.

وللأسف، في لعبة الحرب والسياسة ضاعت آمالها في الحفاظ على مكانة مصر واستقلالها، لتتحول مصر العظيمة في عام 30 قبل الميلاد إلى مستعمرة وسلة غلال للإمبراطورية الرومانية. لكنها رغم الهزيمة وعارها صنعت لنفسها مكانا بين مصاف الأسماء اللامعة في التاريخ.

لكن ما الذي دفعني أن أبحث في حقيقة هذه المرأة هو بحثي وشغفي بمعرفة ما الذي يجعل المرأة جذابة. فسر كليوباترا لم يكن جمالها، بل جاذبيتها. والذي أثار شغفي بالجاذبية كلمة قالها لي أبي قبل سنوات وسنوات: "جمال الوجه بعد سنة جواز بيبقى عادي ... لكن جمال الطبع بيفضل العمر كله." وفي نفس النقاش، أعطاني أبي أمثلة من سيدات بمقاييس الجمال المطلقة لسن جميلات، لكن بمقاييس الجاذبية يتربعن على عرش القلوب بكل سهولة ودون تكبد أي عناء.

وأنا أؤمن أن كل امرأة ككليوباترا تصارع في عالمها الخاص الذي غالبا ما يكون مدفوعا بالخوف ... الخوف من الخسارة ... الخوف من الفشل ... الخوف من المسئولية ... الخوف من الآخرين ... الخوف من المستقبل وتقلبات الزمن. لكن كليوباترا كانت مدفوعة بشيء آخر غير الخوف ... كانت مدفوعة بعاطفة وشغف وهدف، وربما كان هذا أحد أسباب جاذبيتها الشديدة. العاطفة والشغف والهدف قد منحوا كليوباترا الجرأة كي تسعى وراء ما تريد وأن تفكر "خارج الصندوق" وأن تقدم على تنفيذ خططها دون تردد.

ولربما ساعدتنا كليوباترا أن تكون لنا جاذبية ... عندما نعترف لأنفسنا بأعمق رغباتنا وآمالنا، تلك الرغبة وذلك الأمل أو الحلم الذي إن شاركنا العالم فيه سخر منا. وعندما نعرف ما نريد، فسنعرف ماذا ومن نحتاج.

ولربما ساعدتنا كليوباترا أن تكون لنا جاذبية ... عندما نتعلم التعاطف مع من حولنا كما تعاطفت هي مع شعبها وفتحت صوامع الغلال لهم تسد جوعتهم وأغضبت البلطجي الروماني الذي جاء يطالب ب “الإتاوة." والتعاطف سيقودنا لمعرفة كيف يمكننا مساعدة من نريدهم أن يساعدونا، فالحياة في الأخذ والعطاء.

ولربما ساعدتنا كليوباترا أن تكون لنا جاذبية ... عندما ندرك أن قوة الذكاء لا تعادل قوة المعرفة. فكما كانت هي شغوفة بالفلسفة واللغات والرياضيات، واستمتعت بمجالسة العلماء والحكماء، فلنطلب العلم والحكمة ولنضيف لرصيد جاذبيتنا درجات ودرجات. المرأة العارفة جذابة ... مثيرة للاهتمام ... صحبتها ممتعة للرجال والنساء. والمرأة الجذابة امرأة لا تنسى.

#حنان_عواد

Popular Posts