مطاردة السعادة


عندما انتهيت من كتابة أول رسالة ماجستير، غمرتني فرحة عارمة وسعادة لم أشعر بها من قبل. ورغم أنني كنت أعلم تمام العلم أنني لم أنتهي فعليا، فعلي أن أراجعها مرات ومرات، وأنا أنتظر ملاحظات مشرفي الختامية، وأنني بعد التعب والعناء لن أستطيع تقديم عمل كامل ولن أنجو من اللوم والانتقاد. ورغم كل هذا، كنت ببساطة سعيدة. واليوم، بعد أن أنهيت تمشيتي اليومية مع زوجي وجدت قلبي تملأه البهجة، لأنني شعرت أن اليوم يوما مثاليا. ومثالية اليوم – التي ربما كان شعورا مبالغا فيه من تجاهي – حفزت داخلي سلسلة من الخواطر عن مفهوم السعادة.

وقادتني خواطري إلى العاطفة والشغف اللذان قد يملأن القلب تجاه أمر بعينه، وكيف أن هذا الشغف على وجه التحديد ما هو إلا بوصلة ربانية – ما لم نفسدها – تدلنا على وجهتنا في هذا العالم. ولا يحق لنا أو لأي شخص أن يقيم شغفنا بأنه غير صالح أو غير مجد أو غير مهم. كما لا يحق لنا إعلان هذا الشغف القديم في قلبنا على أنه منتهي الصلاحية فقط لأننا قد تقدمنا في العمر أو حملت أكتافنا بالمسئوليات. كل شغف مهم وكل عاطفة سليمة وصحيحة.
لكن لكل عاطفة نشعر بها مهمة ورسالة خاصة في حياتنا ... وكل شغف يعمل كبوصلة تدلنا أين نتجه. وعندما نتجه إلى عكس الاتجاه الصحيح الذي يجب علينا اتخاذه، سنجد أن أفكارنا وكلماتنا تخلف مذاقا مزعجا في حلوقنا. لكن إن امتثلنا للنصيحة "الكليشيهية" الداعية لاتباع القلب Follow your heart، فإننا سنسعد ... أليس كذلك؟
لا، اتباع القلب والمطاردة الدائمة للسعادة لا يعملان دائما. لماذا؟ لأن البوصلة لا تعمل. فعندما تتبع بوصلة قد تم العبث بها، لن تتخذ وجهتك السليمة. لكن من الذي عبث ببوصلاتنا؟ الجميع. نحن لم نستطع فهم أنفسنا، ولم يستطع أبوانا فهمنا، ولم يستطع مدرسونا فهمنا، وأراد الجميع اسقاط حقائقهم علينا لنصبح نسخة من قائمة توقعاتهم. وكأن الجميع يعمل على استبدال بوصلاتنا ببوصلاتهم هم (التي لم تسلم من العبث). ونحن، رغبة منا في تجنب الصراع ونيل الحب سمحنا لأنفسنا بالسير وراء بوصلة لا تعمل.
وبتكرار العبث في بوصلتنا مرارا وتكرارا، يضيع منا شغفنا الحقيقي وتضيع منا سعادتنا. فإما أن نتخلى عما نريد، أو نقرر أننا نريد ما يريده الآخرون لنا. ونوهم أنفسنا أننا لسنا على حق عندما نشعر بالحزن أو خيبة الأمل عندما يضيع شغفنا. ونجد مرايانا الداخلية تعكس صورة مغايرة لحقيقتنا.
وقد تحدثت للعديد ممن فقدوا الثقة في أنفسهم، والثقة في قدراتهم على اتخاذ القرار، بغض النظر عما إن كان القرار سليما أم خاطئا ... فعملية اتخاذ القرار قد أصبحت عبئا كبيرا، فنتخلى عن استقلاليتنا لتجنب الألم. ونتمادى، فننكر على أنفسنا هذه الاستقلالية لأننا نقتنع بأن نظام التوجيه الذي حبانا به الله معيب.
وأثناء ما كنت أفكر في لحظات سعادتي، وجدتني أفكر في لحظات تعاستي، وكيف أنني في كل مرة تخليت فيها عن بوصلتي الداخلية ذهبت سعادتي. وفي كل مرة أتبع بوصلتي أقترب خطوة من الحياة التي تمنيتها لنفسي بقناعة حقيقية وليس قناعة مفتعلة مدعاة.
لكن كيف يعبث الآخرون ببوصلاتنا؟ عندما تتعارض مصالحنا، تظهر الفرصة للعب ببوصلة أحدنا بالإهانة، أو العقاب، أو الحرمان. ونحن نسمح للآخرين بالعبث في بوصلاتنا لتجنب الألم ... ألم الخزي، أو النبذ. ونقنع بسعادة مزيفة ناتجة عن التكيف مع الوضع الذي لا نملك تغييره والقرار الذي لا يمكننا اتخاذه.
لكن فور أن نعيد ضبط بوصلاتنا، ونعود لهذا الطفل المحبوس في ذاكرة الماضي، ونعرف على وجه التحديد الشغف الذي ملأ قلبه، ونلمس حقيقتنا وجوهرنا، سنعرف الاتجاه الذي يقربنا من الحياة التي نحبها ونرغبها.
وهنا يجب أن نفرق بين عدد من الكلمات التي قدد تتداخل معانيها: السعادة ... الرضا ... البهجة ... الفرح ... السرور. ولا يهمني أن أفرق بينهم على وجه التحديد، فلهذا وجدت المعاجم ... لكن الأهم أن أبين أن كل هذه المشاعر مؤقتة. وكل موقف سيثير شعورا منها بمقدار متغاير. لذلك عندما أفكر في السعادة وما يأتينا من رسائل خارجية، أشعر أن العالم يدفعنا لمطاردة السعادة كالصياد التي يتربص بفريسة ليوقع بها. والسعادة وأخواتها من المشاعر التي ذكرتها، أنعم وألطف من أن نطاردها ونتصيدها.
فإن استقرينا على أن سعادتنا في مساعدة الآخرين، فلنهيئ أنفسنا أنه ستأتي علينا لحظات نساعد فيها الآخرين ورغم ذلك لا نشعر بما توقعنا أن نشعر به. فلربما انتقصت قوتنا المستنزفة من سعادتنا، أو تسبب الحاح حلم قديم قد تخلينا عنه في مرحلة من المراحل في شعورنا بأن سعادتنا منقوصة.
ولن نجد سعادتنا في أمر واحد، لذلك من الأفضل أن نصنع كوكتيل السعادة الخاص بنا. وكوتيل السعادة هذا قد يختلف في كل مرحلة من مراحل حياتنا، فالجوع العاطفي الذي قد نشعر به في فترة ما قد يستبدل برغبة عارمة للنجاح واثبات الذات في فترة أخرى، ليستبدل باحتياج شديد للهدوء والاستقرار في فترة تالية. لهذا علينا إعادة تقييم حياتنا مرات ومرات، وأن نغربل أفكارنا ونمحص أفعالنا خاصة التي نقوم بها بشكل يومي، وبذلك نعيد ضبط بوصلاتنا كلما استدعى الأمر.
وأنت وحدك تدرك الفروق الدقيقة في مشاعرك، وقوة رغباتك. والحياة طرفة عين بعد أن تعيشها، وسجن مؤبد وأنت تعيشها، كالذي يعيش داخل فيلم يشاهده في السينما، ويستعيد أحداثه بعد أن ينتهي العرض ويغادر دار العرض. فاتبع بوصلتك وفرحتك وسعادتك وسرورك، وتكيف إن كان التكيف هو ما تدلك إليه بوصلتك.
واتباع البوصلة ليس كافيا لتحقيق السعادة ... فالوعي لا يقل أهمية. فعملية اتخاذ القرار تعتمد على مقدار وعيك بالعوامل المختلفة في حياتك ومدى معرفتك بذاتك.
وبعد أن فلسفنا السعادة، تأتي الخطوات العملية التي تشكل كوكتيل السعادة الذي يختلف وفقا لحياة كل شخص فينا. فكوكتيل سعادتي يشمل الآتي:
الإنجاز
عندما أنجز أعمالا مهمة بالنسبة لي، فإن نفسي تملؤها نشوة غامرة. فالراحة بعد العناء والتعب عندما انتهي وأكمل أمرا ما – خاصة عندما يتحدى هذا الأمر قدراتي ومعلوماتي الحالية ويدفعني للتعلم – فإنني أشعر أن مساعيّ للحصول على السعادة لم تضع هباء. أحيانا، تكون الأمور المنجزة بسيطة كتنظيم أوراقي فوق سطح مكتبي، لكن سعادتي بشطب هذا العمل البسيط من قائمة مهامي لهذا اليوم تشعرني كالفاتح المنتصر.
الامتنان
أؤمن أن الحياة مليئة بالمتع الصغيرة و"السعادات" اللطيفة وهذا يشعرني بامتنان ورضا كبير تجاه ما أفعله واللحظات التي نعيشها والذكريات التي نجمعها. لكن الشعور بالامتنان لا يكفي، لكن الإفصاح عما نشعر به هو مفتاح السعادة. الامتنان لتفاصيل حياتنا اليومية يدفعنا لتقدير سعادتنا خاصة في الأوقات الصعبة ولحظات اليأس.
السخاء
لا تكتمل سعادة حتى تفيض كؤوسنا بالحب على من حولنا. والسخاء ليس بالمال فقط، فالحب والتعاون وخدمة الآخرين ربما تكون أهم من الدراهم والدنانير. وأكبر سعادة حصلت عليها من التطوع والأعمال الخدمية كانت في قدرتي على نسيان بعض من صراعاتي الحياتية اليومية، والتركيز على ما هو أكبر مني.
الهواية
أنا مدمنة على ممارسة الهوايات، كلما عرفت عن هواية ما، كلما تاقت نفسي لمعرفة المزيد. لا أسعى لعمل كل شيء من أنشطة وهوايات، لكني أحب أن أجرب عددا من الهوايات حتى وإن لم أستمر في هذه الهواية. فالكتابة من هواياتي الأساسية، لكنني أيضا أحب الرسم من وقت لآخر وتعلم البيانو والاستمتاع بالموسيقى بمختلف أنواعها والسفر والديكور والتصميم الداخلي والأفلام الوثائقية. حتى الأنشطة العادية التي لا تستهويني، ما إن أحولها في عقلي لهواية حتى يزول حنقي عندما أضطر لعملها. فالطبخ حولته إلى نشاط لطيف أستمتع به، عندما قررت طهي الوجبات الصحية والبحث عن وصفات قليلة الكربوهيدرات.
الأحلام
أنا امرأة لا تكف لحظة عن الحلم ... أحلم في اليقظة وفي المنام وما بينهما. دائما ما أخلق في خيالي سيناريوهات، دائما ما أتخيل وأعيد تخيل ما تخيلته. وعندما تختلف أحلامي عن واقعي، أشعر بالإحباط والإرهاق النفسي، فأجدني أوجد لنفسي الطرق ليتوافق واقعي مع أحلامي. وعندما نكون صادقين في أحلامنا نجدنا نجذب الينا من يشاركوننا نفس الأحلام، ومن هم قادرين على مد يد العون لنا لتحقيقها.
وأنا عندما أحلم بأمر ما، أتخيل كل التفاصيل ... أعطي حلمي اللون والطعم والرائحة والملمس ... وكأني أحيك حلمي بكل حواسي.
وهذا الانغماس التام في حلمي ينعش روحي ويغذي شغفي وعاطفتي ويشحذ عزيمتي ويعيد ضبط بوصلتي. وعادة ما أجد العالم من حولي يستجيب لحلمي. فعندما أقرأ، أجد عيني تقع على عبارات بعينها وكأنها رسائل إلهية.
وفي النهاية، السعادة رغم أنها حالة مؤقتة، لكنها ليست حالة سطحية. فالقلب السليم والنفس المتزنة هما الأساس. فليبحث كل منا عن التوازن والتصالح مع عالمنا الداخلي ولنصنع فرحتنا.

Popular Posts